7/29/2015

الصفر الذي ليس عدماً ...


مشروع لتأسيس فلسفة جديدة
على ضوء إشكاليات إبستمولوجية وفقاً للفيزياء المعاصرة:
د. عماد فوزي شُعيبي
نوع من الهيستيريا المعرفية تلك التي تطالعك على ضوء الفيزياء الحديثة وتحديداً الكمومية. ذلك أنك أمام واقع (القطيعة الابستمولوجية بالتعايش) بين حقيقتين متناقضتين لا جامع بينهما إلا أنت!.
فالفيزياء الكمومية (الكوانتية) تضعك أمام نوع جديد من المعرفة لا يمكن إلا أن نطلق عليها "معارف كونية" لا تشابه أي شيء من معارفنا التي نعيشها في الزمان والمكان؛ ما يعني أننا نعيش معارف أخرى سنطلق عليها "المعارف المحايثة".
هما نوعان من الفيزياء يستدعيان نوعين من الفلسفات. ذلك أن الفلسفة غدت تابعة لما ينتجه العقل البشري من علوم في هذا المضمار بالذات.
فمع فيزياء نيوتن وغيره حتى كان العالم عالماً منظماً تحكمه القوانين وله سماته المحددة على أساس السببية، وهو ما أنتج فلسفات تتحدث عن العلمية والقانونية والناموسية وروح التاريخ ... ومع عالم بلانك وصولاً إلى هاوكينغ أصبح العالم عماهً Chaos * أي لا يمكن تنظيمه (بما يتجاوز حتى الفوضى أو العشواء)، وهو خالٍ من أي قوانين، ولا تحكمه إلا العلاقاتُ بخلاف الأسباب.
هما عالمان حارَ فيهما الفيزيائيون متأرجحين بين وبين الكمومية عقوداً، حيث لا قوانين هذه تقارب تلك، ولا علاقات الثانية تمسُّ الأولى إلا باضطراب كبير. وهذا ما جعل يقاوم الكمومية تحت شعار "أنت تبحث عن إله يلعب النرد، وأنا أبحث عن القوانين التي بثها الله في العالم"، لكن الفيزياء الكمومية انتصرت لنفسها علمياً.
ولأنه ليس عجباً أن تأتي القطيعة الإبستمولوجية على قاعدة التضايف والتعايش بالجمع بين المتناقضات العلمية؛ كما جمع (لوي دو بري) بين طبيعة الضوء التموجية عند ماكسويل وطبيعة الضوء الجُسيمية عند ماكس بلانك بصوغ نظرية الضوء الجسيمي (الفوتوني)-التموجي، فإن نظرية الأوتار الفائقة كانت محاولة للجمع بين ميكانيك نيوتن و والكمومية. وكل ذلك على أساس من التجريد المحض والخيال الأكثر إيغالاً في الافتراضات، وعلى أساس المزيد من تشابك (العلاقات) الرياضية خارج نطاق التجربة، بل وبعيداً منها إلى حد غير معقول بالنسبة لمن اعتاد على أن العلم لا يمكن أن يكون إلا بالتجربة تحققاً.
إذاً فعلتها الفيزياء! وسمحت لنفسها بالجمع بين المتناقضات، فلماذا لم تفعل الفلسفة ذلك إذ بقيت تترنح مشدوهة أمام عالمين لا صلة بينهما؟، ما دعاها أن تفترض أن الكمومية ليست إلا - في أسوأ الأحوال - تنغيماً على وتر النسبية الآينشتانتية، وفي أحسن الأحوال مجرد افتراضات ذهنية، وكأن العلم لم يكن إلا افتراضات. والأهم أن كل ما جاء به لا يعدو كونه افتراضات حدسية اخترعت لها زوجته،كما كان يفعل نيوتن، رياضياتها. وهو الأمر الذي حدا بأبي الكموميةالمعاصرة (ستيفن هوكينغ) إلى إعلان موت الفلسفة.
مشروعنا هنا أن نفعلها!... فلسفياً:
فلسفتنا المقترحة هي جمع (القطيعة الابستمولوجية فلسفياً هذه المرة) بين وعي المحايث ووعي الكوني**.
في المحايث: نحن نعيش على دور (period) معرفي يبدأ بفرضياتنا ويسير بأدواتنا ويتفاعل مع طريقتنا البرهانية ليصل إلى البرهان الذي هو برهاننا. وعلى هذا نخترع الأجهزة التي هي جزء من سياق ذلك الدور المعرفي، فتكون منافعنا. إنه المعرفة القائمة على كل من (التطبيع) وعلى المبدأ البشري معاً.
في هذا المُحايث نبحث عن القوانين، وندعي أننا نكتشفها، في الوقت الذي ليست فيه تلك المعرفة إلا اكتشافٌ لذاتنا العاقلة في ذلك الدور المعرفي الذي يتجسد في قاعدة كانط:"لو كان لي عقل ضفدعة لفكرت ضفدعياً ولو كان لي عقل نخلة لفكرت نخلياً، ولكن لأن لي عقلَ إنسان أفكر إنسانياً".
صحيح أن الإنسان في العقل المحايث ينتج معرفته وتقاناته وينتفع بها، وصحيح أنه يستمتع بالمعرفة التي ينتجها ويلوكها ويتداولها ويختلف حولها... ولكنه لا يعدو كونه – في أحسن الأحوال – ضرباً من الاستمتاع الذاتي بقدر ما تغدو فرصة للاستمتاع بما في الدور الانساني من متعة الإنسان مع ذاته ومعارفه وأدواته ... أي بما هو من داخله وليس من خارجه بشيء. وهذا هو الدور المعرفي الإنساني بمجاز القول ووسيعه. والمحصلة هنا؛ لأن المعرفة داخلية مغلقة على الإنسان ... صفر. صفر ليس عدماً.!
بلى، هو نوع من الصفر الذي ليس عدماً. صفر مركب من المعرفة وجدواها المحايثة من ناحية، ومن اللاإضافة خارج منظومة الإنسان المحدودة المُغلقة من ناحية أخرى. هو صفر لأن المعرفة دائرية، ولأنها منسوبة إلى الإنسان في دائرته المتناهية والتي إذا نسبت إلى الكوني اللامتناهي لغدت صفراً***. ألا تعلِّمنا الرياضيات أن كل قيمة عددية – مهما بلغ شأنها – عندما تقسم على اللانهاية تكون نتيجتها الصفر. فكل معارفنا المغلقة على ذواتنا المتناهية بالقياس إلى الكون ... صفر!.وهي رغم ذلك على المستويين المحايث والكوني ليست صفراً أي ليست بلا محتوى!.
في الوعي الكوني ليس ثمة من انتفاع آني – حالياً – إلا إذا تم التسريع باختراع الكومبيوتر الكمومي. لكنه (أي ذلك الوعي) يطرح علينا فرصة للخروج من صفر الإغلاق الإنساني إلى سوية أخرى قد تكون صفراً انسانياً أيضاً بمحتوىً أخر، وبالتالي للتفكير فيما ليس مفكراً به.
إن الفلسفة في سويتها الكونية، المقترحة والقائمة فعلياً، تكاد تُحطِّم بقطع إبستمولوجي من النوع الأول (أي القطع الكامل) منظومة معارفنا التي عشنا عليها وتُوقِعُنا في اضطراب هو أساساً جزء لا يتجزأ من طبيعتها لأنها لم تعد تتماشى مع ما اعتدنا عليه من معارف في مستوى ما هو محايث (وهي بحد ذاتها عقبة ابستمولوجية في وجه التطور المعرفي وفي وجه قبول ما هو جديد حيث أن فلسفة اعتدنا عليها وتتماشي مع الحس العام تمنعنا من فهم ما يتعالى عليها ويتجاوزه).
ولكي تتضح المبررات التي على أساسها بَنَيْنَا رؤيتنا الفلسفية سابقة الذكر سنشرح المشكلات التي رُسمت على سِفْرِ المعرفة منذ أن أصبحت الفيزياء الكمومية جزءاً لا يتجزأ من المعرفة الفيزيائية:
•إننا أمام نموذج آخر من المعرفة يترتب عليه فلسفة أخرى للوجود أردنا أن نفرضها على شكل مشكلات بعد أن رسمنا نموذجاً مقترحاً منذ البداية لمستوى منظومة معرفية أخرى يمكن أن تكون بادئة لتأسيس فلسفة جديدة لا تقف عند حدود التمايز بين ما هو محايث وما هو كوني إلى المحصلة التي هي صفر ليس عدماً؛ لأنه محكوم بميراث كل ما هو محايث وكوني معاً.
إننا –فعلاً- مع الفيزياء الكوانتية أمام تقاليد ثقافية جد مختلفة، أي أننا أمام وعي جديد للبشرية يستوجب التفكير في خلاص لأزمة انسداد الأفق الفلسفي في المعرفة الذي يتواضع عليه رهط غير قليل من الفلاسفة اليوم.
في بعض المشكلات الابستمولوجية على ضوء الفيزياء الكمومية:
• من العماه إلى الفوضى إلى النظام:
سنعرض لإحدى أهم المشكلات في الفيزياء المعاصرة كبادئةٍ وكأنموذج لعرض –لاحق– للمشكلات الفلسفية المترتبة عليها، حيث إن أحد أهم مفارقات الفيزياء المعاصرة يكمن في مفهوم العماه (CHAOS) الآتي من النظام!!!، ذلك أن النزاع الأزلي بين النظام واللانظام، وبين الانسجام والفوضى، لا بّد وأنه يعكس إدراكاً بشرياً عميق الإحساس بالكون. فهذا النزاع مألوف في كثير من الأساطير المختلفة والثقافات المتعددة. فعند قدماء اليونان كانت الفوضى هي السائدة في الفراغ الأولي للكون، وكذلك في العالم السفلي حيث يسكن الموتى، كما جاء في العهد القديم حيث أن الأرض كانت عديمة الشكل خالية،أي عماهً، وكان الظلام يلفها جميعاً. وفي ملحمة بابلية قديمة نجد أن الكون ينشأ من العماه الذي تلى تدمير عائلة غير حاكمة من الآلهة على يد أبيها. لقد كان العماه هو عديم الشكل الذي صنع الخالق منها الكون المنظم. واقترن النظام بالخير واللانظام بالشر. وعليه، فقد انبرى من مفهوم العماه مفهوم أكثر لطفاً وهو الفوضى (DISORDER) للدلالة على الفوضى القابلة للتنظيم لاحقاً. وهنا بات التنظيم أقرب إلى السلوك البشري منه إلى تدخل الآلهة، وعندئذ نظر إلى النظام والفوضى كقطبين متضادين متعاكسين ترتكز عليهما تفسيراتنا لهذا العالم، وهو ما تجاوز عملياً البحث الذي أضنى العلماء والفلاسفة فيما تم اعتباره مملكة للفوضى والت يسعى البعض إلى أتمتتها.

المؤكد أن أحداً لم يعتد استخدام مفهوم العماه بالطريقة التي نعتمدها هنا؛ إذ أنها كلمة تستخدم لصورة مختلفة عن لحديث عن الفوضى، لكن مدلولها ليس ذاك الذي تأخذه في الاستخدامات اليومية. ففي القاموس:
العماه:
1- هي مادة لا شكل لها و لا نظام يفترض أنها وُجدت قبل وُجودِ الكون المنظَّم.
2- انعدام الانتظام انعداماً تاماً، واضطراباً كاملاً.
ولأن مفهوم التنظيم غدا ضرورياً في المعرفة التي تم تداولها فقد درج على اعتبارها عشواء لأن العماه غدا قابلا للتنظيم فخُفِّف إلى عشواء وأحيانا إلى فوضى بما لا يختلف عن مفهوم مماثل وهو (RANDOM)، مما دفع كُتَّاب القواميس الجديدة إلغاء هذا التصرف الطنان بهذه المفردة. وقد تم اقتراح التعريف التالي بعد عدم ارتياح أولي في مؤتمر دولي حول العشواء عقدته الجمعية الملكية في لندن عام 1986. وبرغم معرفة جميع الحاضرين بما هو مقصود من كلمة العشواء – لأنها مجال بحوثهم – إلا أن قلة منهم كانت راغبة في تقديم تعريف دقيق، وهذا أمر عادي في منطقة بحوث نشطة، إذ من الصعب أن نضع تعريفاً لشيء نشعر أننا لا نفهمه بشكل كامل.

وقد اعتُمد التعريف التالي:
3- (رياضيات): العشواء هي سلوك عشوائي يحدث في الجمل المحددة ويتضمن كلمتين طنانتين "عشوائي" و"محدد". فالتحديد مألوف وهو تحديد لابلاس، أما العشوائي فهو الجزافي أو كيفما اتفق. ولفهم ظاهرة العشواء نحتاج لمناقشة معناها لأننا نجد تناقضاً ضمن تعريفها، فالسلوك المحدد يخضع لقانون دقيق غير قابل للطعن بينما يكون السلوك العشوائي على النقيض؛ فهو لا يخضع لقانون، وهو عديم الانتظام وتحكمه الصدفة؛ أي أن العشواء هي سلوك بلا قانون، محكوم كلياً بالقانون مثل سلوك القمر هايبيريون.
وعليه، فإننا ندرك أننا في مستوى العماه لا نتحدث عن مستوى العشواء. فكلاهما يمت إلى مفهوم يبدو متداخلاً مع الآخر، إلا أن استقلالية (العماه) باعتباره ما لا ينظم لا تجعله مرادفاً للعشواء الذي سيحكم بالقانون في نهاية الأمر سواء قسراً أو بالتجريد الرياضي.
المؤكد أن طبيعة الإنسان؛باستخدامه التجريد التي يعتمده النصف الأيسر من المخ، تحثّه على فهم الانتظامات في الطبيعة، والبحث عن القوانين الكامنة خلف التعقيدات الظاهرة للكون، والوصول من الفوضى إلى النظام. وقد كان لدى الحضارات القديمة تقاويم معقدة للتنبؤ بالفصول وكانت لديها قواعد فلكية لتوقع الكسوفات. فرأت للنجوم أشكالاً في السماء حاكت حولها الأساطير، واخترعت هياكل الآلهة لتفسير ابهامات العالم؛ ذلك التفسير الذي لولاه لبقي العالم عشوائياً لا معنى له. وهكذا تتالت الدورات والأعداد فكانت الرياضيات.

ولأن العالَم تنظمه أدواتنا فإن ما كتبه الفيزيائي أيوجين فغنر (Eugene Wigner) حول القدرة اللامعقولة للرياضيات في وصف بنية العالم الفيزيائي، يعكس ذلك، على اعتبار أن الرياضيات تبرز من أسئلة حول العالم الفيزيائي وتكتسب ديمومتها بتقديم بعض الإجابات. ولكن نادراً ما تكون العملية مباشرة. وغالباً ما تأخذ الفكرة الرياضية كيانها المستقل وطبيعتها الخاصة وتكون هي الهدف في دراستها وتطويرها كمادة رياضية بحتة إلى أن يتم كشف أسرارها الداخلية وإدراك مضمونها الفيزيائي. وقد تكون الأنماط الوحيدة التي ندركها هي أنماط رياضية لأن ملهمها هو الوجود الفيزيائي. وربما يكون نجاحها وهماً كونياً. وقد لا يتوفر من النماذج الحقيقية سوى ما نفرضه بوهنٍ ذهني. هذه كلها تساؤلات فلسفي، أما الواقع الصريح فهو أن الرياضيات هي – من بين الطرق التي نعرفها – الطريقة الأكثر فعالية ومصداقية لفهم ما نراه حولنا، إذ أن طبيعة الإنسان المعاصر المزيد من الغلو في التجريد، وهو ما جعله يستخدم الفعل الرياضي بديلاً من المحسوس والمباشر رغم أن الضبط الرياضي المفرط في دقته لم يتوافق مع الواقع المُلاحَظ توافقاً تاماً، الأمر الذي أحال إلى القانون الإحصائي؛ وهو تلاعب رياضي على الواقع غير المضبوط رياضياً بقانون، ذلك أن ليست قوانين الوجود كلها كلية. فبدلاً من الانتظام تؤكد بعض القوانين على الحدوث بنسبة مئوية من الحالات، وبإضافة تقرير كمي على العلاقة بين حدث وآخر ينتج لدينا القانون الإحصائي .
الفوضى من النظام:
على الرغم من تعاقب النظريات وتتالي الاستعراضات، فإن أمراً واحداً يبقى دون تغيير وهو دور الرياضيات في الطبيعة، فقوانين الطبيعة رياضية، والإله مهندس مبدع. هكذا تشاء طبيعة الإنسان أن تكون. فقد قادت ثورة الأفكار العلمية التي تأججت لدى نيوتن إلى رؤية للكون وكأنه آلة عملاقة تعمل بدقة الميقاتية. وهذه عبارة مازلنا نستخدمها حتى الآن – رغم أنها لم تعد ملائمة في زمن الميقاتيات الرقمية – وذلك للدلالة على التناهي في الوثوقية والكمال الميكانيكي. في مثل هذه الرؤية يمكن التنبؤ بما ستفعله الآلة قبل كل شيء. فضمن ظروف متماثلة تقوم الآلة بأفعال متماثلة. والمهندس الذي يعرف مواصفات الآلة وحالتها في أية لحظة يستطيع من حيث المبدأ أن يحسب بدقة ما ستفعله في أي وقت من الأوقات.
لقد صاغ نيوتن قوانينه في معادلات رياضية، لا تربط بين المقادير وحدها، بل وبين معدلات تغير هذه المقادير أيضاً. وتدعى المعادلات التي تتضمن معدلات التغير بالمعادلات التفاضلية، ويحدَّد معدّل مقدارٍ ما بالفضل بين قيمتيه عند لحظتين متجاورتين؛ أي لم تعد المعادلات خطيِّةً تعتمد على متحول وحيد. ومن هنا نفذت كلمة تفاضل إلى المصطلحات الرياضية، فهناك الحساب التفاضلي، والمعادلات التفاضلية والمعاملات التفاضلية والتفاضل. ومع أن حل المعادلات الجبرية، التي لا تحوي معدلات تغيرٍ، لا يكون سهلاً دائماً كما نعلم، فإن مما يزيد الحمل على كاهلنا هو أن حل المعادلات التفاضلية أصعب بكثير من حل المعادلات الجبرية.
ورغم أن عقلية الحضارة الغربية رأت في الكون آلة منتظمة دقيقة كالمقاتية، وضللت نفسها لتستنتج أن المعادلات المحددة تقود دوماً إلى سلوك منتظم، فإنها قد انتهت إلى ضرب من (العماه) الذي يراد له أن يُنظم، وهو قد انتهى إلى عشواء في النظام. وكأن العقل نفسه يكرر نموذج العقل الشرقي الذي يميل ظاهريا إلى مظهر فلسفي مختلف، إلا أنه متقارب فعلياً. فالهندوسيون، مثلاً، يعطي للعشوائية دوراً أكثر أهمية من مجرد اضطراب عديم الشكل، ويسلمون بالوحدة القائمة بين النظام واللانظام. ففي أساطير الهندوس الشائعة يمر الكون بثلاثة أطوار رئيسة: الخلق والصيانة والتخريب، سياقاً على الولادة والحياة والموت. فبراهما هو إله الخلق، وفيشنو هو إله الصيانة (النظام)، وشيفا هو إله التخريب (اللانظام). ولشخصية شيفا وجوه متعددة؛ فهو الذي يسير في الجانب الموحش، وهو الصياد المنفرد، وهو الراقص، وهو اليوغائي الذي اعتنق فلسفة اليوغا وانسحب من المجتمع الإنساني، وهو الناسك الزاهد المغطى بالرماد، وهو النافر المتوحش. وليس الفرق بين "نظام" فيشنو و"لانظام" شيفا كالفرق بين الإله والشيطان، لكنهما يمثلان طريقتين مختلفتين تفصح الآلهة من خلالها عن نفسها: السماحة والغيظ، والتوافق والنشاز.
وبالطريقة نفسها، بدأ علماء الرياضيات النظر إلى النظام والعشوائية كمظهرين متميزين غير منفصلين للتحديد الضمني. فالجملة النموذجية تأخذ حالات متعددة، بعضها منظم وبعضها عشوائي، والطيف مستمر بين قطبين متضادين. فكما أن التوافق والنشاز يجتمعان في الجمال الموسيقي، فإن النظام والعشوائية يجتمعان في جمال الرياضيات حتى أن الجمال يكاد يكون ميثاقاً توافقياً في العلم؛ إذ أن الفيزيائيين يجدون من الصعوبة أن يعتقدوا بأن الطبيعة قد تحترم معظم وليس كل التناظرات الممكنة رياضياً.
• المشكلات الفلسفية في الفيزياء المعاصرة:
بعيداً من الصدع بين العلم والفلسفة، وهو ما لا نقرُّه، فإننا نرى إله العلم قد طرح علينا مسائل فلسفية يمكن أن تؤسس لفلسفة جديدة نحاول أن نطرحها على النحو التالي:

• مشكلة الذات: إن الذات في الفيزياء الكمومية تعيّن الواقع. فهنا ثمة بروز لدور الذات كمرجعية. فقد أصحبنا نبحث عن الحقيقة وأصبحت الحقيقة التي نتعامل معها كلاً ليست إلا تنميطاً للمعرفة حسب ما تأسس عليه مخ الباحث؛ أي أصبحنا نستخدم مفهوم التطبيع في هذه المعرفة. وهذا ما عبر عنه كانط بقوله: "لو كان لي عقل ضفدع لفكرت ضفدعياً".
وقد أصبح للذات دور في الوجود وصناعته، كما وتعين الواقعة. وغدت فلسفة العلوم المعاصرة تعتبر أن الإنسان هو مقياس كل شيء. وليس هذا فقط، بل أصبح صانع وخالق كل شيء. فالعالم ليس (معقولاً) بدون الإنسان، ولكن الأهم أن الخيال هو الذي يحدّد مفاهيم العلوم القائمة اليوم على عوالم رياضية ليس أولها حقل الأعداد التخيلية (العقديّة)، وليس آخرها حدس بثبات سرعة الضوء واعتباره أسرع سرعة في الوجود، لتأتي الفيزياء الكمومية لتعتبر أن عالمنا المحايث ليس أكثر من افتراض وأنه امتداد لعوالمنا الأخرى.
مذهب الأنا في الفيزياء الكمومية يقرَ بأن الأنا تصنع كل شيء لأنها أنا كونية لا نهائية تضفي على الوجود احتمالاته وتكون احتمالات للنسخ الأخرى تتعين بها تلك النسخ في أزمنة وأمكنة مختلفة.
لم تعد الأنا المختبِرة تتدخل فقط بسرعة الإلكترون إن أرادت تعيين إحداثياته ولم تعد تغير الإحداثيات إن هي قاست السرعة. صحيح أنها أصبحت تخلط الذات بالموضوع، إلا أنها عملياً تخلق الموضوع. ففي دائرة (العلاقة) لم تعد الذات تتمايز عن موضوع بحثها، وأصبح مفهوم الذات لا معنى له؛ إنه صفر بالمعنى الذي يجعل الذات واقعاً غير متعيّنٍ ولا مفصولاً ولا متمايزاً عن الموضوع الذي يغدو بدوره صفراً لأنه لم يعد موجوداً ... بصورة مستقلة!
إن مفهوم العلاقة يجعل الكلّ؛ (الذات+الموضوع) ليس جمعاً لمكوناته. إنه العلاقة القائمة بينهم. فمفهوم العلاقة هنا يلغي التمايز ويحيلنا إلى وجود المفرد (سواء الذات أو الموضوع) باعتباره افتراضاً نفسياً أو إجرائياً تقتضيه الأنا عندما تريد أن تبحث بأدواتها التي تجعلها متمايزة افتراضياً وآنياً وإجرائياً، بينما هي كونياً وكموميّاً مندرجة في سياق ... (العلاقة).

• مشكلة الحقيقة والوجود من منظار معاصر:
• مشكلة معنى الوعي في العوالم المتوازية
"أكثر الأشياء استعصاء على الفهم هو أن يكون العالم قابلاً للفهم"

ألبرت آينشتاين
لقد تجاوزت الحقيقة الاستخلاص من التجربة واخترعت أفكاراً ما فوق تجريبية أو ميتاعقلية وميتاواقعية تتجاوز التجريب والعقلانية المحض. وعليه، فإن فريد آلان وولف الأستاذ في جامعة سان دييغو يرى أن أوجين فغنر حامل جائزة نوبل في الفيزياء كان يعتقد أن إدراكنا يغير العالم نفسه لأنه يغير كيفية تخميننا للمستقبل؛ أي أننا نتعامل مع العالم بطريقتنا لأننا نختار أن نتعامل معه بهذه الطريقة. لكن التحول في هذه المسألة المعرفية أتى لاحقاً مع هيو إيفيريت الثالث الذي قدم في أطروحته للدكتوراه حلاً لمسألة الإدراك أو الوعي عندما اعتبر بأنه لاحاجة بنا لأي وعي في الفيزياء الكمومية، ذلك أن المستقبل لا يغيره الوعي، بل إن كل المستقبلات الممكنة تحدث لاحقاً. فبدلاً من عالم فرد يظهر بالمصادفة؛ عالم يغيره الوعي، يوجد عدد لا نهائي من عوالم متوازية تتصرف كلها كاندياحات لتابع كمومي (عكسي) نظامية جداً ضمن المستقبل. ونحن موجودون في جميع هذه الطبقات العالمية!
إنها عوالم موجودة متوازية بطبيعتها، لا يتعدى أي منها على سواه. وعلى هذا، فنحن لا نعي (ولا ندرك) سوى الطبقة التي اتفق لنا أن نكون فيها، لا سواها. وهنا لم يعد الراصد يتدخل في الفعل المرصود، إنما يتعدى ذلك حيث أن الراصد – وفقاً لإيفيريت – لا يعدو كونه آلة ذات ذاكرة. والوعي هنا هو الترابط الكمومي بين الطبقات العديدة التي تؤلف بمجموعها ميكانيك الكم، أي أن ميكانيك الكم ينداح ويتأسس فعلياً في كل أماكن وجودنا المتوازية وطبقاته حيث أن وجودنا كما لو أننا مسافرون عند مفترق طرق لا نرى إلا طريقاً واحداً فقط هو الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه في هذه اللحظة غوالم (GOLEM) ميكانيكية كمومية*. وهو ما يعني أن الأشياء تفعل ما هو غير متوقع ما يفضي إلى الأسئلة التالية:
إذ كان من الممكن أن نستطيع بناء تركيب معقد مفكر يفاجئنا بتصرف ذكي من لدنه؟ وإذا صح هذا فما الفرق بين الآلات والكائنات الحية؟ وبالتالي، فثمة إمكانية لخلق غولم هو التركيب الميكانيكي الذكي الذي يشبه نموذجاً للألعاب التي تستخدم في الملاهي الخاصة بالأطفال والتي – كي تدخل القلوب في الأطفال المسحورين – قد وضع فيها جهازا استقبال يتحسسان بالصوت ويتجاوبان مع الأطفال بخفض رؤوسها إلى مستوى أفواههم إلى أن يصرخ الطفل فتهرب اللعبة إلى وضعيتها المتعالية، إلا أنها – أي الألعاب – عندما يذهب الأطفال ويغلق الملهى أبوابه، يعود المشغلون في اليوم التالي ليروا بأن الألعاب قد أحنت رأسها وكأنها خلدت للنوم، وهو تصرف غير مبرمج في آلة اللعبة نفسها وكأنها تخلد إلى النوم ليلاً بسبب عدم وجود صوت آدمي يحركها. والفكرة المركزية هنا أننا نتصرف بطريقة ذكية غير مبرمجة فينا أصلاً، ولهذا نختار هذا الوجود دون غيره، وهو أمر يكاد أن يضرب بقوة مفهوم السببية الذي نعرفه ونتعامل معه، ما يعني أن سببية العالم الكواني هي غير سببيتنا أو أنها ليست سببية بل هي (علاقة) أو (تداخل بين العلاقة والسببية) في وضع لا يمكن أن يغدو بمثابة تفسير ... أو لعله ضرب من الفهم؟ ربما. ولكن القضية هنا تتجاوز هذا المستوى من التصنيف إلى مسألة الوعي بأكملها. فالواقعية تمثل مرحلة متدنية على المستوى المعرفي لأنه لا يدرك أن ليس ثمة من واقع بسيط (حدث، ظاهرة، موضوع). فالجاذبية مثلاً لا تُرى، فالواقعية العلمية مبنية.
إن مسألة الوعي على ضوء الفيزياء الكمومية وفقاً لأوجين فغنر تتلخص بأن وعينا يغير العالم لأنه يؤثر في تخميننا للمستقبل. وهو يفعل ذلك بتغيير توابعنا الموجية الكمومية التي تمثلنا (تمكاتنا)**. ولما كانت تلك التوابع (أي تمكاتنا) تحتوي كل المستقبلات الممكنة، فإن إرادتنا هي التي تغير مستقبلاتنا المحتملة إلى حاضر واقعي. ولكن فغنر يرى المسألة من خلال زاوية محددة وهي دور الراصد في تغيير تابع موجة المنظومة حيث أن دخول الانطباع في وعينا هو الذي يغير تخميننا لشتى الانطباعات التي نتوقع أخذها في المستقبل. وعند هذه النقطة يدخل الوعي في النظرية دخولاً لا يمكن تحاشيه ولا تغييره. هنا، تلعب انطباعاتنا دور أصابع العازف على البيانو كما الإنسان العازف على (تمكات) الحياة. والأخطر أن النغمة قد لا تأتي على هواك بالضبط. كما أن النغمة – أيضاً – قد لا تكون استمراراً لماضيك، وقد تكون!
هنا يضرب مفهوم الماضي. فالمرونة الكمومية تنبئ أن الماضي قد يخلق كما المستقبل حيث لا يوجد ماض ولا يوجد مستقبل. إننا نحن نخلق الاثنين بشكل استمراري وبطرائق لا يمكن التنبؤ بها.
• من التخلص من الوعي إلى الأنانة:
إن نظرية العوالم المتوازية – وفقاً لفريد آلان وولف – تخلصنا من (الوعي) برمته. وهو لا يتورع عن أن يعتبر بأن ما سيحل محل الوعي مغامرة فيها من الصوفية؛ لأننا نعيش في عدد لا يحصى من العوالم المتفاعلة باستمرار. إن ما يعتقده إيفيريت الثالث يتلخص في أن العالم لا يكون في عقولنا إلى أن نخلقه. هل يحيلنا هذا إلى بركلي من حيث أن الوجود إدراك. نعم. وقد سبق إلى ذلك الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار عندما اعتبر أن الوجود تمثلّي وإدراكي. والجواب عن هذا يكمن فعلياً في أن العقل البشري نفسه الذي عرفناه مع بركلي تأملياً ينعكس عن مرتسمه – فعلياً – مع إيفيريت الثالث تأملياً – تجريبياً – كتابع موجة كمومية (تمك). وعليه، يؤسس وولف مبدأ (الأنانة) متسائلاً: إذا كانت الحقيقة حلماً، فمن الحالم؟ لو كان هناك حالم وكنت أنا الحالم، عندئذ لا يوجد شيء إلا أنا. هذه الفلسفة (الأنانية) متماسكلة منطقياً على مستوى الفيزياء الكمومية. فالعالم شيء كامن وغير حاضر بدوني أو بدونك. فوفقاً لهذه الفلسفة، ثمة نوعان للحقيقة: الحقيقة (الخارجية) المبنية على الخبرات والإحساسات والأحداث الاتفاقية؛ أي التي نتفق أنا وأنت على أنها حدثت خارجياً، أولنقل إنها التي تتوافق مع (الحس العام)، وحقيقة هي عالم عقولنا التي لا تتفق مع خبرتنا الشائعة أو الحس العام وهي الحقيقة (الداخلية).

وفي مستوى ميكانيك الكم ثمة حقيقة ثالثة لها خصائص من الحقيقة الداخلية والخارجية سابقتي الذكر. وهذه (الثالثة) جسر يصل بين حقيقة الفعل وحقيقة المادة. وسبب احتوائها على خصائص منهما معاً ما يجعل منها حقيقة (سحرية)، بمجاز القول، وذات مفارقات. إن السببية موجودة فيها بحذافيرها وفقاً لقوانين السبب والمفعول (السبب والنتيجة) والمشكلة الوحيدة هي أن الأشياء التي تطيع هذه القوانين ليست أجساماً (من النوع الذي نتكلم عنه عادة)، إنما هي (أشباح). هي أشباح ذات مفارقات بكل معنى الكلمة؛ إنها قادرة على أن تظهر في مكانين أو أكثر مهما بلغ عدد الأمكنة وفي وقت واحد. وهي على مستوى المادة أشبه بالأمواج، ولهذا سميت توابع الموجة الكمومية، أي "التمكات".
هنا يسوغ تعريف الوعي بأنه ذلك العنصر الذي يقع خارج العالم الفيزيائي المادي والذي يستخرج (التمك) لتكون لدينا النتيجة المرجوة من تشكيلة ظروف الوعي المتاحة. وهنا كل عمليات الرصد تكون محكومة بقوانين سببية من نوع خاص غير التي نعرفها؛ إنها سببية كمومية حيث كل شيء في حالة اندياح والعالم يتغير باستمرار ويتألف من كل العوالم الممكنة.
......
جزء أول
......
‫#‏فيزياء‬ من ‫#‏سورية‬
ملاحظة :
إبستمولوجية Epistemology : هي فرع من فروع الفلسفة تهتم بطبيعة ومجال المعرفة .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق